mercredi 20 février 2013

en arabe, Je crois en Dieu par le pape Benoît XVI... dans les semaines précédant juste sa renonciation

المُقَابَلَةُ العَامَّةُ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ المُوَافِقَ 23 مِن يناير / كَانُون الثاني 2013
بِقَاعَةِ بُولُسَ السَّادِسِ
سَنَةُ الإِيمَانِ: أؤمن بالله
الأخوات والإخوة الأعزاء،
في سنة الإيمان هذه، أودّ اليوم البدء في التأمل معكم حول قانون الإيمان، أي حول الاعتراف الرسمي بالإيمان الذي يصطحب حياتنا كمؤمنين. يبدأ قانون الإيمان كهذا: "أؤمن بالله". إنه اعتراف جوهري، يبدو بسيطا في ماهيته، ولكنه يفتح على العالم غير المتناهي للعلاقة مع الرب ومع سره. الإيمان بالله يتطلب الاستسلام له، ويعني قبول كلمته والطاعة الفَرِحَة لوحيِّيه. كما يُخبر التعليمُ المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: "الإيمان فعلٌ شخصي: إنه جواب الإنسان على مبادرة الله الذي يكشف ذاته" (عدد 166). الإقرار بالإيمان بالله هو إذا عطيةٌ –فالله هو الذي يكشف عن نفسه، ويأتي للقائنا- والتزامٌ معا، إنه هبة إلهية ومسؤولية بشرية، عبر خبرة حوار مع الله الذي، بمحبة، "يخاطب البشر كأصدقاء" (دستور عقائدي في الوحي الإلهي، كلمة الله، عدد 2)، يكلمنا حتى نستطيع، في الإيمان وبالإيمان، الدخول في شَرِكة معه.
أين يمكننا سماع الله وكلمته؟ أساسيٌّ هو الكتاب المقدس، حيث كلمة الله قد صارت مسموعة لنا وحيثما تُغذي حياتَنا كـ"أصدقاء" لله. فكل الكتاب يسرد لنا وحي الله عن ذاته للبشرية ويعلمنا الإيمان بسرد تاريخ قيادة الرب لنا نحو تدبيره الخلاصي، حيث جاعل نفسه قريبا منّا نحن البشر، من خلال العديد من الأشخاص المُلهِمة، الذين قد أمنوا به ووثقوا فيه، حتى بلوغ الوحي إلى ملئه في الرب يسوع.
رائع، في هذا الصدد، الفصل 11 من الرسالة إلى العبرانيين، والذي سمعنا حالا. حيث يتكلم عن الإيمان مُسلطًا الأضواء على شخصيات كتابية قد عاشت، وصارت نموذجًا لكل المؤمنين. يقول النص في الآية الأولى: "فالإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (11، 1). إن أعين الإيمان هي إذا قادرة على رؤية ما هو غير مرئي وقلب المؤمنين يستطيع أن يرجو خلافًا لكل رجاء، تمامًا كإبراهيم، والذي يقول عنه بولس في الرسالة إلى روما: "آمَنَ راجِيًا على غَيرِ رَجاء" (4، 18).
أودُّ التوقف وتركيز انتباهنا بالأخص حول إبراهيم، لأنه أول الشخصيات الكبرى كمرجع في التحدث عن الإيمان بالله: إبراهيم هو البطريرك العظيم، المثال النموذجي، إنه أبو جميع المؤمنين (راجع رو 4، 11-12). والرسالة إلى العبرانيين تقدمه هكذا: "بِالإِيمانِ لَبَّى إِبراهيمُ الدَّعوَة فخَرَجَ إِلى بَلَدٍ قُدِّرَ لَه أن يَنالَه ميراثًا، خَرَجَ وهولا يَدْري إِلى أَينَ يَتَوجَّه. بِالإِيمانِ نَزَلَ في أَرْضِ الميعادِ نُزولَه في أَرضٍ غَريبَة، وأَقامَ في الخِيامِ معَ إِسحقَ وَيَعقوبَ الشَّريكَينِ في الميراثِ المَوعودِ عينِه، فقَد كانَ يَنتَظِرُ المَدينَةَ ذاتَ الأُسُس واللهُ مُهَندِسُها وبانِيها" (11، 8-10).
يشير هنا كاتب الرسالة للعبرانيين إلى دعوة إبراهيم، كما يرويها سفر التكوين، أول أسفار الكتاب المقدس. ماذا طلب الرب من هذا البطريرك العظيم؟ طلب منه أن ينطلق ويترك أرضه ليذهب تجاه بلد سيريها له، "وقالَ الرَّبُّ لأَبْرام: اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إِلى الأَرضِ الَّتي سأُريكَ" (تك 12، 1). كيف كنّا سنرد نحن على دعوة مماثلة؟ إن الأمر يتعلق، حقيقة، بانطلاق نحو الغموض، بدون معرفة إلى أين سيقوده الرب؛ إنها مسيرة تَتطلب طاعة وثقة جذرية، لا يمكن الحصول عليها إلا عبر الإيمان. إلا أن غموض المجهول- حيث يجب على إبراهيم أن يمضي- قد أصبح مُنارًا بنور وعد؛ فقد أضاف الله إلى الأمرِ كلمةً مُطمئِنةً تفتح أمام إبراهيم مستقبلا لحياة كاملة التحقيق: "وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة. وأُبارِكُ مُبارِكيكَ، وأَلعَنُ لاعِنيكَ وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض" (تك 12، 2-3).
إن البركة، في الكتاب المقدس، هي مرتبطة بداية بعطية الحياة التي يهبها الله، وتظهر قبل كل شيء في الخصوبة، في حياة مباركة، من جيل إلى جيل. هي بركة مرتبة أيضا بخبرة الحصول على أرض، على مكان ثابت حيث يمكن العيش والنمو في حرية وأمان، بمخافة الله وببناء مجتمع أشخاص مخلصين للعهد، "وأَنتُم تَكونونَ لي مَملَكةً مِنَ الكَهَنَة وأُمَّةً مُقَدَّسة" (راجع خر 19، 6).
لهذا كان مقدرا لإبراهيم، في التدبير الإلهي، أن يصبح "أَبا عَدَدٍ كَبيرٍ مِنَ الأُمَم" (تك 17، 5؛ راجع رو 4، 17-18) وأن يقطن في أرض جديدة. رغم أن ساره، امرأته، كانت عاقرة، لا تستطيع إنجاب أطفالا؛ والأرض التي سيقوده لها الرب هي بعيدة عن مسقط رأسه، وهي مسكونة من شعوب أخرى، ولن تكون أبدا ملكا له. يشدد الراوي الكتابي، ولكن بكثير من الإجلال: ولما وصل إبراهيم إلى مكان وعد الله: "في الأَرضِ الكَنْعانِيّينَ" (تك 12، 6). فالأرض التي سيهبها الله ليست ملكا لإبراهيم، فهو غريب وهكذا سيبقى دائمًا، مع كل ما يعنيه ذلك: أي عدم التفكير في الامتلاك، وأن يشعر دائما بفقره، وأن يعرف أن كل شيء هو عطية. هذا هو أيضا شرط روحي لمن يوافق على اتباع الرب، لمن يقرر أن يرحل انطلاقا من قبول دعوته، خلف بركة الله غير المرئية ولكن القديرة. إن إبراهيم، "أبو المؤمنين"، قد قبل هذه الدعوة، في الإيمان. يكتب القديس بولس في رسالته إلى روما: "آمَنَ راجِيًا على غَيرِ رَجاء فأَصبَحَ أَبًا لِعَدَدٍ كَبيرٍ مِنَ الأُمَمِ على مما قِيل: «هكذا يَكونُ نَسْلُكَ». ولَم يَضعُفْ في إِيمانِه حِينَ رأَى أَنَّ بَدَنَه قد ماتَ- وكانَ قد شارفَ المِائَة- وأَنَّ رَحِمَ سارَةَ قد ماتَت أَيضًا. ففي وعدِ اللهِ لم يَتَرَدَّدْ لِعَدَمِ الإِيمان، بل قَوَّاهُ إِيمانُه فمَجَّدَ اللهَ مُتَيَقنِّاً أَنَّ اللهَ قادِرٌ على إِنجازِ ما وَعَدَ بِه" (رو 4، 18-21).
يقود الإيمانُ إبراهيمَ للانطلاق في مسيرة تناقضية. فهو سيكون مباركا ولكن بدون علامات البركة المرئية: يمنح له الوعد بأن يصير شعبا عظيما، ولكن عبر حياة موصومة بعدم خصوبة زوجته ساره؛ وقد اقتاده نحو بلد جديد ولكن حيث سيعيش كغريب؛ فالشيء الوحيد الذي سيمتلكه من الأرض، التي سيسمح له بدخولها، سيكون بضعة أمتار حيث دفن زوجته ساره (راجع تك 23، 1-20). إن إبراهيم هو مبارك لأنه، في الإيمان، استطاع أن يميز البركة الإلهية ذاهبا أبعد من مما هو ظاهر، إنه الوثوق في حضور الرب أيضا عندما قد تبدو دروبُه غامضة.
ماذا يعني هذا بالنسبة لنا؟ عندما نعلن [في قانون الإيمان]: "أؤمن بالله"، فإننا نقول كإبراهيم: " أيها الرب، أنا أثق فيك؛ وفيك أضع ثقتي"، ولكن ليس كشخص نلجئ إليه في أوقات الصعوبة وحسب أو كمن نخصص له بعض الأوقات في أثناء اليوم أو خلال الأسبوع. إن قول: "أؤمن بالله" يعني أن أقيم حياتي فوقه، وأن أترك لكلمته هدايتها كلَّ يوم، في الاختيارات الملموسة، بدون أن أخشى فقدان شيئا من ذاتي. عندما يُسأل، في طقس المعمودية، لثلاث مرات: "أتؤمنون؟" بالله، وبيسوع المسيح، وبالروح القدس، وبالكنيسة الكاثوليكية وبحقائق الإيمان الأخرى، فإن الإجابات الثلاثة تكون بصيغة المفرد: "أؤمن"، لأن عطية الإيمان يجب أن تحوّل وجودي الشخصي، أي أن وجودي الشخصي هو الذي يجب أن يتغير، ويرتد. يجب أن نسأل أنفسنا، ففي كل مرة نشترك في معمودية، حول كيفية عيشنا اليومي لعطية الإيمان العظيمة.
إن إبراهيم، المؤمن، يعلمنا الإيمان؛ و، كغريب فوق الأرض، يرشدنا نحو الوطن الحقيقي. إن الإيمان يجعلنا على الأرض حجاجا، جزء من العالم ومن التاريخ، ولكن سائرين نحو الوطن السمائي. فالإيمان بالله إذا يجعلنا حاملين لقيم، لا تتوافق في كثير من الأحيان، مع الموضة ومع الرأي السائد، ويطلب منا أن نتبنى معايير وأن نسلك بطريقة لا تنتمي للطريقة العامة للتفكير. فالمسيحي لكي يحي إيمانه يجب على ألا يخشى السير "عكس التيار"، ومقاومة تجربة "التماثل". فقد بات الله، في كثير من مجتمعاتنا، "الغائب الكبير" وقد وُضِع مكانه العديدَ من الأصنام، أصنام متعددة للغاية وفي مقدمتها صنم الامتلاكية و"الأنا" الاستقلالي. وقد أدخلت التطوراتُ العلمية والتقنية الواضحة والإيجابية في الإنسان كذلك توهمًا بالقدرة وبالاكتفائية الذاتية، وأنمت تمحورا حول الذات قد خلق الكثير من عدم التوازن الداخلي في إطار العلاقات الشخصية وداخل التصرفات الاجتماعية.
وبرغم كل ذلك، فالعطش لله (راجع مز 63، 2) لم يغيب، ومازالت تُسمع أصداء الرسالة الإنجيلية عبر كلمات وأفعال العديد من رجال ونساء الإيمان. ولازال إبراهيم، أبو المؤمنين، أبًا للكثير من الأبناء الذي يقبلون اقتفاء آثره واضعين أنفسهم على الطريق، في طاعة للدعوة الإلهية، واثقين في حضور الرب الصالح ومستقبلين بركته ليتحوّلوا هم بركة للجميع. إننا جميعا مدعوون إلى عالم الإيمان المبارك هذا، لنسير بدون خوف خلف الرب يسوع المسيح. إنه طريق واعر أحيانا، ولا تغيب عنه التجربة والموت، ولكنه يفتح نحو الحياة، في تغير جذري للواقع، تغير لا يمكن إلا لأعين الإيمان أن تراه وأن تتذوقه بالكامل.
إن التأكيد على :أؤمن بالله" يدفعنا، بالتالي، إلى الرحيل، إلى الخروج الدائم من أنفسنا، تماما كإبراهيم، لكي يجلب إلى الواقع اليومي الذي نحياه اليقين الآتي من الإيمان: أي اليقين بحضور الله في التاريخ، أيضا اليوم؛ حضور يجلب الحياة والخلاص، ويفتحنا على مستقبل معه من أجل حياة كاملة لا تعرف الغروب.

****************
البَابَا يُصَلِّي مِنْ أَجْلِ جَمِيعِ النَّاطِقِينَ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. لِيُبَارِكْ الرَّبُّ جَمِيعَكُمْ.


قَدَاسَةُ البَابَا بِنِدِكْتُسْ السَّادِسَ عَشْرَ
المُقَابَلَةُ الْعَامَّةُ
يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ المُوَافِقَ 30 مِن يناير / كَانُون الثاني 2013
بِقَاعَةِ بُولُسَ السَّادِس
سَنَةُ الإِيمَانِ
أؤمنُ باللهِ: الآب القدير
الأخوات والإخوة الأعزاء،
توقفنا في التعليم المسيحي للأربعاء المنصرم عند الكلمات الأولى لقانون الإيمان: "أؤمن بالله". إلا أن الاعتراف بالإيمان يضع هذا التأكيد: "الله الآب القدير، خالق السماء والأرض". ولهذا أودّ الآن التأمل معكم حول التعريف الأول، والأساسي الذي يقدمه قانون الإيمان عن الله: إنه آب.
في وقتنا المعاصر ليس من السهل التكلم عن الأبوة. خاصة في الغرب، حيث يطغى فيه تفكك الأسر، وانشغالات العمل تتحكم فينا دائما أكثر، وحيث التخوفات وكذلك هَمّ ضبط ميزانيات المصروفات العائلية، وحيث الإكتساح المشوش والمتنامي لوسائل الإعلام هي من بين العوامل التي قد تمنع نشوب علاقة بَنَّاءة وفَرِحة بين الآباء والأبناء. فكثيرا ما يصبح التواصل صعبًا، وتَضعف الثقة، مما يحوّل العلاقة مع الأب إلى علاقة إشكالية؛ وبالتالي تمسي العلاقة مع الله الآب هكذا أيضا عسيرة، لغياب مرجعية النماذج الجيدة. فالشخص الذي عانى من علاقة ابوية مفرطة في التسلطية والجمود، أو غير مكترثة وجافة، أو بالأحرى غائبة، لا يستطيع بسهولة التفكير في الله كأب والاستسلام له بثقة.
إلا أن الوحي الكتابي يساعدنا على تخطي هذه الصعاب بكلامه عن إله يُظهر لنا المعنى الحقيقي لكونه "الآب"؛ وخاصة الإنجيل الذي يكشف لنا وجه الله هذا، كأب يُحب حتى تقديم ابنه الوحيد من أجل خلاص البشرية. ومن ثمَّ فالإشارة للأبوية تساعد على فهم بعضًا من محبة الله، التي تبقى دائما أعظم، وأكثر أمانة، وأشمل من تلك التي لأي إنسان بما لا نهاية له. "مَن مِنكُم- يقول يسوع لتلاميذه لكي يبين لهم وجه الآب- إِذا سأَلَهُ ابنُهُ رَغيفاً أَعطاهُ حَجَراً، أَو سأَلَه سَمَكَةً أَعطاهُ حَيَّة؟ فإِذا كُنْتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعْطُوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكُم، فما أَولى أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات بِأَن يُعْطِيَ ما هو صالِحٌ لِلَّذينَ يَسأَلونَه!" (مت 7، 9-11؛ راجع لو 11، 11-13). إن الله هو آبٌ لنا لأنه باركنا واختارنا قبل إنشاء العالم (راجع أف 1، 3-6)، وجعلنا بالحقيقة ابنائه في المسيح (راجع 1 يو 3، 1). فالله، كأب، يصطحب بمحبة كلَّ وجودنا، واهبنا لنا كلمته، وهِدَايته، ونعمته، وروحه.
إنه – كما يكشف يسوع – آبٌ يُطعم طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تَخزُنُ في الأَهراء، ويُلبس زنابق الحقل أجمل من لباس سليمان الملك (راجع مت 6، 26-32؛ لو 12، 24-28)؛ ونحن – يضيف يسوع – أفضل بكثير من زنابق الحقل وطيور السماء! إن كان هو هكذا صالحا لدرجة أنه "يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار. ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار" (مت 5، 45)، فيمكننا دائما، وبدون خوف وبثقة كاملة، الاستسلام لمغفرته كآب عندما نضل الطريق. فالله هو آب صالح يقبل ويحتضن الابن الضال والتائب (راجع لو 15، 11) يمنح بمجانية لمن يسألونه (راجع مت 18، 19؛ مر 11، 24؛ يو 16 16، 23) ويعطي خبز السماء والماء الحي الذي يهب الحياة الأبدية (راجع يو 6، 32.51.58).
لهذا نجد أن المصلي في المزمور 27، محاطا بأعدائه، ومحاصرا بالأشرار والكاذبين، يستطيع، في أثناء طلب العون من الرب ودعائه، أن يشهد بإيمان تام مؤكدًا: "إِذا ترَكَني أَبي وأُمِّي فالرَّبُّ يَقبَلني" (الآية 10). فالله هو آبٌ لا يهمل ابدا أبنائه، آبٌ محبٌ يُنهض، ويُساعد، ويَحتضن، ويَغفر، ويُخلص، بأمانة تتخطى تماما وكليا تلك التي للبشر، وتفتحنا على البُعد الأبدي. "لأن محبته هي للأبد"، كما يكرر دائما وبطريقة إبتهالية، بعد كل آية، المزمور 136 راويا تاريخ الخلاص. فمحبة الله لا تنقص أبدا، ولا تيأس منّا؛ إنها محبة تُعطى حتى النهاية، حتى تقدمة الأبن. إن الإيمان يعطينا هذا اليقين، الذي يتحول لصخرة راسخة لبناء حياتنا: فنحن نستطيع مواجهة كل أوقات الصعاب والخطر، وخبرة الظلام والمشقة وأوقات الألم، بمعونة الثقة في أن الله دائما وأبدا معنا ولن يهملنا، إنه بجوارنا دائما، ليخلصنا وليقودنا نحو الحياة الأبدية.
يظهر كاملا في الرب يسوع وجهَ الآب الصالح الذي في السموات. فبالتعرف عليه نتمكن من معرفة الآب (راجع يو 8، 19؛ 14، 7)، وبرؤيته نستطيع رؤية الآب، لأنه في الآب والآب فيه (راجع يو 14، 9. 11). فهو "صُورَةُ الله الذي لا يُرى" كما عرفه نشيد الرسالة إلى الكولوسيين، هو "بِكْرُ الخَلائِقِ كُلِّها... وهوَ البَدءُ وبِكرُ مَنْ قامَ مِنْ بَينِ الأمواتِ"، "فكانَ لَنا فيِه الفِداءُ، أي غُفرانُ الخَطايا" والمصالحة بين كل الأشياء، "لأنه بِدَمِهِ على الصَّليبِ حُقِّقَ السَّلام. وصالح بِه كُلَ شيءٍ في الأرضِ كما في السَّماواتِ" (راجع كو 1، 13-20).
إن الإيمان بالله الآب يتطلب الإيمانَ بالابن، تحت عمل الروح، والاعترافَ بالصليب، الذي يخلص: الإعلان النهائي عن محبة الإلهية. إن الله هو آبٌ لنا بعطية ابنه؛ الله هو آب لنا بمغفرة خطيئتنا وبإعطائنا فرح حياة القيامة؛ الله هو آب لنا بإعطائنا الروح الذي يجعلنا أبناء ويسمح لنا بندائه، في الحقيقة، "أبَّا، أيها الآب" (راجع رو 8، 15). لهذا يسوع، وهو يعلمنا الصلاة، يحثنا لندعوه "آبانا" (مت 6، 9-13؛ راجع لو 11، 2-4).
إن أبوة الله، إذا، هي محبة لا نهائية، صلاح ينحني علينا، كأبناء ضعفاء، محتاجين إلى كل شيء. يعلن المزمور 103، نشيد الرحمة الإلهية العظيمة: "كرحمَةِ الأبِ على بَنيهِ يرحَمُ الرّبُّ أتقياءَهُ، لأنَّهُ عالِمٌ بِجبلتِنا ويذكُرُ أننا تُرابٌ" (الآيتان 13-14). ففي الحقيقة، يتحول صغرنا، وطبيعتنا البشرية الضعيفة، وهشاشتنا، إلى نداء موجهة إلى رحمة الرب لكي يُظهر عظمتَه وعطفَ الآب عبر مساعدتنا، والصفح عنا، وبمنحنا الخلاص.
فالله استجاب لدعائنا، وأرسل ابنه، الذي مات وقام من أجلنا؛ منخرطا في ضعفنا ومحققًا ما لا يمكن للإنسان بمفرده أن يصنعه: أي أن يأخذ على نفسه، كحمل برئ، خطيئة العالم، ويفتح لنا مجددا الطريق نحو الشركة مع الله، ويجعلنا أبناء حقيقيين له. فهنا، في السر الفصحي، ينكشف لنا الوجه النهائي للآب في كل بهائه. وهنا، فوق الصليب المجيد، ينجلي الظهور الكامل لعظمة الآب كـ"أب قدير".
ويمكننا أن نسأل أنفسنا: كيف يمكن التفكير في إله قدير من خلال النظر لصليب المسيح؟ والتفكير في قدرة الشر، الذي يصل حتى قتل ابن الله؟ نحن نريد بالتأكيد قدرة إلهية تتوافق مع تصوراتنا العقلية ومع رغباتنا: إله "قدير" يحل المشاكل، ويتدخل في منع الصعاب التي تعترضنا، وينتصر على القوى المعارضة، ويغير مجرى الأحداث ويلغي الألم. وكهذا، اليوم بعض اللاهوتيين يقولون أن الله لا يمكن أن يكون قديرا وإلا كيف نُعلل وجود كل هذا الألم، والشر الجم في العالم. في الحقيقة، بالنسبة للكثيرين، ولنا، يصبح اشكاليًّا وصعبًا الإيمان باله آب وبالإيمان بأنه قدير؛ ويهرب البعض إلى ملجئ الأصنام، مستسلمًا لتجربة الحصول على إجابة فيما يُعتقد أنه قدرة "سحرية" وفي تعهداتها الوهميِّة.
لكن الإيمان بالله القدير يدفعنا للسير على دروب مختلفة تماما: أي تعلم أن فكر الله هو مختلف عن فكرنا، وأن دروب الله تختلف كليًّا عن تلك التي لنا (راجع أش 55، 8) فقدرته أيضًا هي مختلفة: فهي لا تظهر كأنها قدرة تلقائية أو تسلطية، ولكنها تتميز بحرية مُحبة وأبوية. في الواقع، إن الله بخلقه لمخلوقات حرة، تتمتع بالحرية، قد تنازل عن بعض من قدرته، تاركا هذه المقدرة لحريتنا. فهو هكذا يحب ويحترم استجابة المحبة الحرة على دعوته. فالله، كأب، يرغب في أن نصبح أبنائه في ابنه، وعبر الشركة، في مناخ من الألفة معه. إن قدرته لا تظهر في العنف، ولا في تدمير كل قدرة مُعَادية، كما نرغب نحن، ولكنها تظهر في المحبة، وفي الرحمة، وفي الغفران، وفي قبول حريتنا وفي دعوته الدائمة لتوبة القلب؛ في تصرف يبدو خارجيا ضعيفا- فالله يبدو ضعيفا، إذا فكرنا في يسوع المسيح الذي يصلي ويقبل موته-. تصرف يبدو ظاهريا ضعيفا، مصنوعا من الصبر، ومن الوداعة ومن المحبة، ولكن يبدو أن هذه هي الطريقة الحقيقية للتعبير عن كونه قديرا! هذه هي مقدرة الله! هذه المقدرة ستنتصر!. يتوجه حكيم سفر الحكمة لله هكذا: "لكِنَّكَ تَرحَمُ جَميعَ النَّاس لأنّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير وتَتَغاضَى عن خَطايا النَّاسِ لِكَي يَتوبوا. فإِنَّكَ تُحِبّ جَميعَ الكائنات ولا تَمقُتُ شَيئًا مِمَّا صَنَعتَ... إِنَّكَ تُشفِقُ على كُلِّ شيَء لأنَ كُلَ شيَء لَكَ أيُّها السّيدُ المُحِب لِلحَياة" (11، 23-24 أ. 26).
القوي حقا هو من يستطيع تحمل الشر مظهرا رحمة؛ القوي هو فقط القادر على أن يمارس القوة الكاملة عبر جبروت المحبة. والله -الذي له كل شيء لأنه هو خالق كل شيء - يكشف قوته عن طريق محبة الكل وجميع الأشياء، في انتظار صبور لتوبة البشر، لرغبته في اجتذابهم لنفسه كأبناء. الله ينتظر توبتنا. إن محبة الله القديرة لا حد لها، لدرجة أن "الله ما بَخِلَ باَبنِهِ، بَلْ أسلَمَهُ إلى الموتِ مِنْ أجلِنا جميعًا" (رو 8، 32). فقدرة المحبة ليست تلك التي لقدرة العالم، ولكنها تلك التي للتقدمة الكاملة: يسوع، ابن الله، الذي يكشف للعالم قدرة الآب الحقيقية عن طريق تقديم حياته من أجلنا نحن الخطأة. إن هذه هي القدرة الإلهية الحقيقية والأصيلة: الرد على الشر، لا بالشر، وإنما بالخير، على الإهانات بالمغفرة، على الكراهية القاتلة بالحب المحيي. ومن ثمَّ فالشر بالحقيقة قد هُزم، لأن محبة الله قد طهرته؛ والموت بالتالي قد هُزِم نهائيا لأن عطية الحياة قد بدَّلته. فالله الآب بإقامته للأبن: قد أباد الموت، العدو الأكبر (راجع 1 كو 15، 26) وحُرمه من سلطانه (راجع 1 كو 15، 54-55)، لنستطيع نحن التحرر من الخطيئة، والانخراط في واقعنا كأبناء لله.
وبالتالي فإننا عندما نعلن: "أؤمن بالله الآب القدير"، فنحن نُعبر عن إيماننا في قدرة محبة الله التي في ابنه- الذي مات وقام- قد هزمتْ الكراهية، والخطيئة وفتحتْ لنا الطريق للحياة الأبدية، تلك التي للأبناء الراغبين في العيش دائما في "بيت الآب". قول "أؤمن بالله الآب القدير"، وفي مقدرته، وفي طريقة تعبيره عن ابويته هو دائما فعل ايمان، وتوبة، وتبديل لطريقة تفكيرنا، ولكل مشاعرنا، ولكل طريقتنا في العيش.
الإخوة والأخوات الأعزاء، لنطلب من الرب أن يُعِين إيماننا، وأن يمنحنا حقًا الايمان، وأن يهبنا القوة لنبشر بالمسيح مصلوبا وقائما، فنشهد له بالمحبة تجاه الله والقريب. وليسمح الله لنا بقبول عطية البنوة، لكي نحيَّ تماما حقائق قانون الإيمان، بتسليم واثق في محبة الآب وفي رحمته القديرة، والتي هي المقدرة الحقة، التي تُخلص.

****************
البَابَا يُصَلِّي مِنْ أَجْلِ جَمِيعِ النَّاطِقِينَ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. لِيُبَارِكْ الرَّبُّ جَمِيعَكُمْ.
****************

المُقَابَلَةُ الْعَامَّةُ
يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ المُوَافِقَ 06 فبراير / شباط 2013
بِقَاعَةِ بُولُسَ السَّادِس
سَنَةُ الْإِيمَانِ
أؤمنُ باللهِ: خالق السماء والأرض، وخالق الإنسان

الأخوات والإخوة الأعزاء،
قانون الإيمان الذي يبدأ بوصف الله كـ"آب قدير" كما تأملنا في الاسبوع الماضي، يضيف أنه "خالق السماء والأرض"، مستشهدا بالإعلان المذكور في مستهل الكتاب المقدس. ففي الحقيقة، نقرأ في أول آية الكتاب المقدس: "في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض" (تك 1، 1): إن الله هو مبدأ كل الأشياء وفي جمال الخليقة يتضح قدرة الله كآب محب.
فالله يَظهر كآب في الخليقة، لكونه مبدأ الحياة، ولأن فعل الخلق يُبيّن قدرته. معبرة للغاية التصورات المستخدمة في الكتاب المقدس في هذا الصدد (راجع أش 40، 12؛ 45، 18؛ 48، 13؛ مز 104، 2. 5؛ 135، 7؛ أم 8، 27-29؛ أي 38-39). إنه، كآب محب وقدير، يعتني بخليقته بمحبة وبأمانة لا يعتريهما النقصان أبدًا، كما تعلن تكرارا المزامير (راجع مز 57، 11؛ 108، 5؛ 36، 6).
هكذا، تصبح الخليقة المكان الذي فيه يمكن معرفة والتعرف على مقدرة الرب وعلى صلاحه، وتصبح بالنسبة لنا، نحن المؤمنين، نداءً للإيمان لكي نعلن الله خالقًا. "بِالإِيمانِ- يذكر كاتب الرسالة إلى العبرانيين- نُدرِكُ أَنَّ العالَمِينَ أُنشِئَت بِكَلِمَةِ الله، حَتَّى إِنَّ ما يُرى يَأتي مِمَّا لا يُرى" (11، 3). يتطلب الإيمان إذا إدراك ما لا يُرى ومعرفة اقتفاء آثاره في العالم المرئي. يقدر المؤمن قراءة كتاب الطبيعة العظيم وفهم لغته (راجع مز 19، 2-5)؛ إلا أن كلمة وحييه هي ضرورية، تبعث على الإيمان، لكي يصل الإنسان إلى الإدراك الكامل لحقيقة كون الله خالق وآب. ففي الكتاب المقدس يمكن للعقل البشري أن يجد، تحت نور الإيمان، المفتاح لفهم العالم. يحتل، وبطريقة خاصة، الفصلُ الأول لسفر التكوين، مكانا مميزا بمقدمته الإبتهالية عن عمل الإلهي الخلاق والذي يظهر على طول السبع أيام: فالله أنتهى من عملية الخلق في ستة أيام وفي اليوم السابع، يوم السبت، أوقف كل عمل واستراح. يوم الراحة للجميع، ويوم الشَرِكة مع الله. وهكذا، بهذا التصور، يقتادنا سفر التكوين إلى أن المقصد الأول لله كان إيجاد محبة تستجيب لمحبته. والمقصد الثاني كان بعد ذلك خلق العالم المادي لتوطين هذا الحب، وهذه المخلوقات التي، بحرية، تتجاوب معه. إنها إذًا هيكلية تسمح بتكرار ببعض العبارات ذات المدلول. فلعدد ست مرات، على سبيل المثال، تكررت العبارة: " ورأَى اللهُ أَنَّ ذلك حَسَن" (الآيات 4. 10. 12. 18. 21. 25)، لكي ينتهي، في المرة السابعة، أي بعد خلق الإنسان: "رأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا" (آية 31). فكل ما صنعه الله هو جميل وصالح، مفعما بالحكمة والمحبة؛ ففعل الله الخلاق يحمل النظام، ويدخل بالتناغم، ويعطي الجمال. يتضح من قصة التكوين أن الرب قد خلق بـ"كلمته": نقرأ في النص لعشر مرات التعبير "قالَ الله" (الآيات 3. 6. 9. 11. 14. 20. 24. 26. 28. 29). إنه كلمة الله، اللوجوس، الذي هو أصل حقيقة الكون، وبقول "قال الله"، فكان، هو لإبراز القدرة المؤثرة للكلمة الإلهية. هكذا ينشد كاتب المزامير: "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَوات وبِروحِ فَمِه صُنعِ كلّ جَيشِها... إِنَّه قالَ فكان وأَمَرَ فوجِد" (33، 6. 9). فالحياة أشرقت، والعالم خرج للوجود، لأن كل شيء يطيع الكلمة الإلهية.
ولكن سؤالنا اليوم هو: هل مازال هناك معنى للتكلم مجددًا، في زمن العلم والتقنية، عن الخلق؟ وكيف يمكننا فهم ما يسرده سفر التكوين؟ إن الكتاب المقدس لا يريد أن يكون دليلا للعلوم الطبيعة؛ ولكنه يريد أن يُفهمنا الحقيقة الأصيلة والعميقة للأشياء. فالحقيقة الأساسية التي يكشفها سفر التكوين هي أن العالم ليس مجردَ تراكما لطاقات متنافرة فيما بينها، وإنما يجد أساسه وثباته في اللوجوس، في حكمة الله الأبدية، التي لا تزال تحفظ استمرار الكون. هناك تدبير للعالم يتدفق من هذا العقل، من الروح الخالق. إن الإيمان بأن هذا هو قاعدة كل شيء، يُنير كل مناحي الوجود ويمنح الشجاعة لمواجهة مغامرة الحياة بثقة وبرجاء. ومن ثمَّ، يخبرنا الكتاب المقدس أن أصل الحياة، والعالم، وأصلنا ليس ثمرة لاعقلانية أو الحاجة، ولكنه ثمرة عقل ومحبة وحرية. من هذا يتضح الاختيار المزدوج: إما إن تكون الأولوية هي للاعقلانية وللحاجة، وإما للعقلانية وللحرية وللمحبة. نحن نؤمن بالاختيار الأخير.
أود أيضا قول كلمة حول هدف الخليقة جمعاء: الرجل والمرأة، الكيان البشري، هو الوحيد "القادر أن يَعرفَ ويحبَّ خالقَه" (دستور عقائدي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، 12). يتسأل كاتب المزامير، ناظرا للسموات: "عِندَما أرى سَمَواتِكَ صُنعَ أَصابِعِكَ والقَمَرَ والكَواكِبَ الَّتي ثبتَّها. ما الإِنْسانُ حَتَّى تَذكُرَه واْبنُ آدَمَ حَتَّى تَفتَقِدَه؟" (8، 4-5). فالكائن البشري، المخلوق بمحبة من الله، هو صغير للغاية بالمقارنته بضخامة الكون؛ بين حين وآخر، عند النظر بأعين مفتونة إلى شاسعة مسافات الفضاء، ندرك نحن أيضا ضآلتنا. تقطن في الإنسان هذه المفارقة: ضآلتنا  واضمحلالتنا يتعايشان جانب الى جانب مع عظمة ما ابتغته لنا محبةُ الله الأبدية.  
روايات الخلق المذكورة في سفر التكوين تدخلنا في إطار ما هو سريّ، لمساعدتنا على معرفة تدبير الله للإنسان. فهي، بادئ ذي بدء، تؤكد أن الله قد خلق الإنسان من تراب الأرض (راجع تك 2، 7). هذا يعني أننا لسنا الله، ولم نخلق أنفسَنا بأنفسِنا، فنحن تراب؛ ويعني أيضا أننا جئنا من الأرض الصالحة، من خلال صنيع الخالق الصالح. إلى جانب هذا يمكننا إضافة حقيقة أخري أساسية: جميع البشر هم تراب، بغض النظر عن الاختلافات الناتجة من الثقافة والتاريخ، وبغض النظر عن الاختلافات الاجتماعية، فنحن بشرية واحدة خلقها الله من نفس الأرض. هنالك عنصر ثاني: إن الحياة البشرية قد ابتدأت لأن الله نفخ في الجسد المصنوع من الأرض نفخة حياة (راجع تك 2، 7). فالإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله (راجع تك 1، 26-27). ولهذا فجميعنا يحمل في داخله نفخة الحياة الإلهية وكل حياة بشرية – كما يقول لنا الكتاب المقدس- هي تحت الحماية الخاصة لله. في هذا يكمن السر الأكثر عمقا لحُرمة الكرامة الإنسانية ضد كل تجربة تحاول تقيم الشخص بناء على معايير منفعية وسلطوية. فكونه على صورة ومثال الله يشير أيضا إلى أن الإنسان ليس منغلقا على ذاته، بل أن له مرجعية أساسية في الله.
نجد في الفصول الأول لسفر التكوين تشبهين معبرين: جَنَّة عَدْنٍ حيث شجرة معرفة الخير والشر والحيِّة (راجع تك 2، 15-17؛ 3، 1-5). يخبرنا سفر التكوين أن جَنَّة عَدْن، المكان الذي وضعنا الله فيه، لم يكن غابة موحشة، بل مكانا يمنح المأكل والعون والحماية؛ يجب على الإنسان أن يُقر بأن الكون ليس ملكيِّةً له يحق له نهبها واستغلالها، بل عطية من الخالق، وعلامة لصلاحه الخلاصي، عطية عليه تنميتها وحمايتها، وإنمائها وتطويرها من خلال الاحترام، والتناغم، وباتباع الايقاعات والمنطق، وفقا لتَدبير الله (راجع تك 2، 8-15). ثم، الحيِّة هي صورة تأتي من العبادات الشرقية عن الخصب، والتي كانت تجتذب إسرائيل وتمثل بالنسبة له تجربة مستمرة لنقض عهده السري مع الله. والكتاب المقدس، على ضوء هذا، يقدم تجربة آدم وحواء على أنها نواة للتجربة والخطيئة. ماذا تقول حقًا الحيِّة؟ إنها لا تنكر الله، بل تطرح بدهاء سؤالا: "أَيقينًا قالَ الله: لا تأكُلا مِن جَميعِ أَشْجارِ الجَنَّة؟" (تك 3، 1). وقد أدخلت الحيِّةُ، بهذه الطريقة، الشكَ في العهد مع الله وكأنه قيد، يسلب الحرية ويَحرم من الأُمور الجميلة والنفيسة في الحياة. فتتحول التجربة إلى محاولة لبناء العالم الذي نحي فيه منفردين، ولرفض كل حدود الكائن المخلوق، حدود الخير والشر، والأخلاق؛ الاستقلال من المحبة الخالقة لله لاعتبارها عبئا يجب التحرر منه. هذا هو دائما لُب  التجربة. إلا أنه عندما تُزيف العلاقة مع الله، بأكذوبة، بوضع الذات مكانه، تنحرف كل العلاقات الأخرى. ومن ثمَّ يصبح الآخر منافسًا، وتهديدًا: فآدم، بعد السقوط في التجربة، يتهم فورا حواء (راجع تك 3، 12)؛ ويختبئ الاثنان من أمام نظر الله، الذي كانا يتحدثان معه بمودة سابقا (راجع 3، 8-10)؛ والعالم لم يعد بعد جنّة عدن حيث العيش بتناغم، بل مكانا يسعى لاستخدامه، مكانا ينبت وشَوكًا وحَسَكًا (راجع 3، 14-19)؛ وقد دخل إلى قلب الإنسان الحسدُ والكراهيةُ نحو الآخر: نموذجيُّ على ذلك هو قايِن الذي قتل أخيه هابيل (راجع 4، 3-9). فبالسير عكس الخالق، في الحقيقة الإنسان يسير عكس نفسه، وينكر أصله وبالتالي حقيقته؛ وهكذا يدخل الشر إلى العالم، بنتائجه المؤلمة من آلام وموت. وهكذا عندما خلق الله العالم كان حسن، بل وحسن جدا، ولكن بعد اختيار الانسان الحر اتباعا لأكذوبة ضد الحقيقة، دخل الشر إلى العالم.
من قصة الخلق، أودُّ توضيح درسا أخيرا: الخطيئةُ تنجب خطيئةً وكل خطايا التاريخ هي متصلة فيما بينها. يدفعنا هذا المنظور إلى التكلم عما يُسمى "الخطيئة الأصلية". ما يعني هذا الواقع، صعب الفهم؟ في هذا الصدد أرغب فقط في إعطاء بعض العناصر. يجب علينا قبل كل شيء إدراك أنه لا يوجد إنسان منغلق على ذاته، لا أحد يستطيع العيش من ذاته ولذاته؛ فنحن ننال الحياة من الآخر، ليس فقط في لحظة الميلاد، ولكن في كل يوم. فالإنسان هو علاقة: فأنا أحقق ذاتي فقط في الأنت ومن خلال الأنت، وعبر علاقة المحبة مع الأنت الإلهي ومع الأنت الخاص بالآخرين. صحيح، الخطيئة هي الإخلال أو تدمير العلاقة مع الله، فجوهره هو هذا: تدمير العلاقة مع الله، تلك العلاقة المركزية، بوضع الذات مكان الله. يؤكد كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية أن الإنسان بخطيئة الأولى: "قد فضّل نفسه على الله، وبذلك عيِّنه حَقَرَ الله: اختار ذاته على الله، ضد مقتضيات كونه خليقة، ومن ثَمَّ ضد صالحه الخاص" (عدد 398). فباهتزاز العلاقة الأساسية، تخلخلت وتدمرت أيضا أعمدة بقية العلاقات الأخرى، فالخطيئة تخرب العلاقات، وهكذا تُفسد كل شيء؛ نحن لسنا إلا "علاقات". والآن، إذا كان بنيان العلاقات البشرية قد أصيب في مهده، فكل إنسان يدخل إلى عالم موصوم باضطراب العلاقات هذا، يدخل في عالم زعزعته الخطيئة، وهذا يمسه شخصيا؛ فالخطيئة الأولى قد انتقل أثرها وجرحت الطبيعة البشرية ([إنها خطيئة «موروثة» لا «مُرتكبة»، حالة لا فعل] راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 404-406). إن الإنسان بمفرده ووحيدا لا يستطيع الخروج من هذه الحالة، لا يمكنه أن يخلص ذاته بذاته؛ فقط الخالق يستطيع بنفسه إعادة العلاقات لحالتها الأولى الصحيحة. فقط مَن ابتعدنا عنه يستطيع أن يأتي إلينا ويمنحنا العون بمحبة، وبهذا تتمكن العلاقات الصحيحة من إعادة الوثاق مجددا فيما بينها. إن هذا قد تم في يسوع المسيح، الذي تصرف تماما عكس آدم، كما يصف نشيد الفصل الثاني من رسالة القديس بولس إلى كنيسة أفسس (2، 5-11): ففي حين تنكر آدم لكونه خليقة وأراد أن يضع نفسه مكان الله، يسوع، ابن الله، عبر علاقة كاملة البنَويِّة مع الآب، أخلى ذاته، متخذا صورة العبد، وسار على درب المحبة بتواضع حتى الصليب، ليداوي العلاقات مع الله. وهكذا أصبح صليب المسيح شجرة الحياة الجديدة.
أخواتي وإخوتي الأعزاء، أن نحي بالإيمان يعني أن نعترف بعظة الله ونقبل ضعفنا، وحالتنا كخليقة تاركين الرب يملئنا بمحبته، وهكذا تنمو عظمتنا الحقيقية. إن الشر، بتابعياته من ألم ومعاناة، هو سر لا يمكن إضاءته إلا بنور الإيمان، الذي يعطينا اليقين بأنه يمكننا أن نتحرر من سلطانه: اليقين بأن خلق الإنسان هو لأمر جيد.

****************
البَابَا يُصَلِّي مِنْ أَجْلِ جَمِيعِ النَّاطِقِينَ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. لِيُبَارِكْ الرَّبُّ جَمِيعَكُمْ.
****************

©

Aucun commentaire: